إنه رجل تمكن من بناء إمبراطورية عملاقة صارت على مر الأيام أقوى من العديد من الدول في العالم، بل وأعظم تأثيراً ونفودًا في السياسة الدولية. وانتشرت هذه الإمبراطورية المسماة نيوز كوربوريشن التي تضم ۸۰۰ مؤسسة إخبارية وإعلامية، ليس في بريطانيا والولايات المتحدة وحدهما، بل وفي استراليا، وإيطاليا و ٥٢ بلدا آخر، لتمتد إلى أربع قارات حول العالم.
إنه رجل يمتلك أكثر من (۱۷٥) صحيفة عالمية شهيرة من بينها: «التايمز» اللندنية و الصنداي تايمز» و «الصن الشعبية أوسع الصحف البريطانية انتشارا، ونيوز أوف ذي ورلد» و «نيويورك بوست» و «وول ستريت جورنال ثاني الصحف الأوسع انتشارا في الولايات المتحدة، وإحدى أهم الدوريات الاقتصادية في أمريكا والعالم.
بداية موردوخ
ولد كيث روبرت موردوخ في ۱۱ - ۳- ۱۹۳۱ بمدينة ملبورن الأسترالية، ونشأ في أسرة غريبة التكوين؛ فجده لأبيه كان رجل دين، بينما كان جده لأمه أحد المعروفين بلعب القمار، وكسب الأموال من الطرق غير المشروعة، فورث عنهما اتجاهاته اليمينية وحب المال والسعي وراءه أينما كان.
وكان والد روبرت مردوخ يملك أكبر صحيفتين في أستراليا مما جعله أحد أكثر الإعلاميين أهمية في تلك الفترة، وقد حصل روبرت أيضا على لقب فارس تقديرا لما قدمه من خدمات لبلده، كما شغل كيث الأب منصب المستشار الإعلامي "لبيلي هيوز "رئيس وزراء أستراليا أثناء الحرب العالمية الأولى... وكان حلمه أن يورث أعماله لولده إلا أن روبرت الابن خيب أمله بتقدمه البطيء في العمل.
وقد التحق روبرت بالمدرسة التي تخرج منها أيضا الأمير تشارلز ملك بريطانيا حاليا وهي مدرسة جيلونج جرامر ، ثم أكمل روبرت دراسته في احد أرقي الجامعات في العالم وهي جامعة أوكسفورد البريطانية، وفي أكسفورد تفاعل روبرت مع الحياة السياسية، وعايش صعود التيارات اليسارية والليبرالية ومعركتها مع التيار المحافظ، وأعجب بالأفكار الماركسية فأخذ منها ما يتماشى مع فكره الرأسمالي الذي اكتسى بعد ذلك بمسحة الاستغلال والانتهازية.
وفي هذه الفترة كان والده يعاني مشكلات صحية في القلب، ومع قلقه حيال مستقبل ولده الذي كان يهدر وقته ونقود دراسته على الحفلات طلب من صديقه اللورد بيفر بروك صاحب صحيفة دايلي اكسبريس في لندن أن يوظف روبرت في صحيفته وسرعان ما اكتشف روبرت مواهبه الصحافية في صياغة المقالات واختيار العناوين الأكثر جاذبية.
وفي العام ١٩٥٢ توفي والده غارقا في الديون، مما اضطر الأسرة إلى بيع كثير من الأسهم والممتلكات الأخرى لسدادها. وقد استكمل موردوخ الصغير دراسته ليحصل على درجة الماجستير من أوكسفورد، وليعود في العام ١٩٥٣ إلى أستراليا محاولاً إحياء صحيفة ذي نيوز الصغيرة التي تركها له والده، لكنه أخفق في اكتساب ثقة الناشرين خاصة مع انتشار سمعته كشخص يفتقر إلى الخبرة. إلا أنه كرس وقته وجهده لتعلم واكتساب الخبرة اللازمة لإدارة الصحيفة التي منها انطلقت مسيرة الإعلامي الذي سيعطى كل أنواع الألقاب في ما بعد، من بارون» إلى «عميد» و «ملياردير» وصولاً إلى إمبراطور الإعلام».
عاد روبرت إلى أستراليا عام ۱۹۵۲ بعد وفاة والده، وتسلم ملكية ورئاسة تحرير صحيفة News Adelaide بطبعتها اليومية والأسبوعية التي ورثها عنه.
وكانت أول مواجهة لروبرت مع الصحف المنافسة في أستراليا هي التي حولت تفكيره من العمل بشكل عادي إلى العمل بشكل تنافسي متسلط، حيث تسلم خطاب تهديد من مجموعة إعلامية منافسة عقب بداية عمله كرئيس تحرير لصحيفة News Adelaiden إما يبيعها لهم أو الاستعداد للمنافسة بلا هوادة، فكان رد موردوخ هو إشعال المنافسة من ناحيته، حيث حافظ على تعاقدات الإعلانات بتقليل أسعارها وعزز الصحيفة بالكاريكاتير والقصص المصورة الصغيرة التي تجذب أعدادا كبيرة من القراء، ثم قرر الهبوط بسعر بيع الصحيفة.
أدرك موردوخ جيدا أن هذه الخطوة ستكبده خسائر كبيرة في الفترة الأولى على الأقل، إلا أنه قرر قبول التحدي لوضع الصحف المنافسة الأخرى في مأزق حرج. ثم بدأ شن حربه عليها بنشر رسالة التهديد التي وصلته مع تعليق له يندد فيه بـ «الاستيلاء على حرية الفكر والتعددية، ومطالبا بـ حماية تعدد الآراء والليبرالية الإعلامية، ومحذرا من خطورة السيطرة على الإعلام وبالتالي التحكم في الرأي العام.
ولاشك في أن خصومه لم يتوقعوا أن يكون رد فعل الصحفي الناشئ عنيفا وقويا بهذا الشكل؛ فبعد سنتين من هذه الواقعة واصل موردوخ أثناءهما حربه على الصحف المنافسة - بات واضحا أنه أصبح خصماً وليس منافسا عاديا، واستسلمت مجموعة فاسست معه شركة إعلامية جديدة، ومع الوقت أحكم موردوخ سيطرته على سياسة التحرير، وعينه على جمع المال وزيادة ثروته، حتى تمكن من شراء تلك المجموعة وجميع الشركات الملحقة بها بالكامل.
وربما ساعدت الأجواء السائدة في أستراليا في سنوات الخمسينيات على تشجيع موردوخ في توسيع ثروته الإعلامية؛ فالصحافة الأسترالية في هذه الفترة كانت مزيجا غريبا من المدرستين الإنجليزية والأمريكية في عالم الصحافة، وكانت تعتمد كثيراً على العنف وفرض السيطرة والقوة في مناقشة السياسة الإعلامية بين دور النشر ورؤساء التحرير، ويمكن أن يكون موردوخ قد رأى فيها نقطة ضعف يمكن من خلالها فرض سيطرته، وخلق نفوذ خاص به وسط هذا الصراع، مستغلاً نقطة الضعف المهمة، وهي أن التحرك العملي أقوى من الكلام دون تنفيذ.
ويمكن تأكيد هذا التوجه من خلال السياسة التي اتبعها لتكبير حجم سلطته وممتلكاته الإعلامية؛ فكان لا يتردد في شراء أي جريدة على وشك الإفلاس، وكان يسعى لدخول في شراكة مع الصحف الكبرى حتى ولو بالقدر اليسير أولاً، ثم يتحين الفرص لزيادة نصيبه، عاملاً بالحكمة القائلة: «إذا أردت أن تمسك بالذراع فعليك أولا أن تمسك بالإصبع، وتكفي الإشارة إلى أنه عام ١٩٦٠ - أي بعد 8 أعوام من عمله الفعلي في الصحافة - اشترى ٣ صحف ومحطة تلفزيونية ناشئة في أستراليا. تحول عام ١٩٦٩ إلى بريطانيا؛ حيث اشترى أولاً صحيفة News of the world الأسبوعية التي كان يصل حجم توزيعها إلى ٦,٢ ملايين نسخة، ثم قام بتغيير سياستها التحريرية اعتمادا على الموضوعات الجنسية، والتركيز على العناوين ذات الحجم الكبير.
وبعد عدة أسابيع اشترى صحيفة The Sun بنصف مليون جنيه إسترليني بعد أن شارفت على الإفلاس؛ فخفض عدد العاملين بها، ثم بدأ في تغيير سياستها التحريرية رأسًا على عقب، وركز على أخبار الفضائح، وما يحدث في المجتمع المخملي؛ فارتفعت مبيعات الصحيفتين في وقت قصير ليحقق مردوخ أرباحه، ويسيطر على سوق الإعلام البريطانية.
كانت النقلة الكبرى في سيطرته على الرأي العام البريطاني مع مرور مجموعة صحف The Times أعرق الصحف البريطانية بأزمة مالية حادة، وأعرض المستثمرون عن إنقاذها تخوفا من الغموض الذي يغلف مستقبلها بعد تراجع مبيعاتها بشكل ملحوظ، ووقوع مشاكل مع عمال الطباعة والنقابات.
إلا أن هذه المخاوف لم تمنعه من التركيز على المجموعة؛ لما تمثله المجموعة من أهمية في عالم الصحافة ومكانه عالية في دنيا السياسة، ويبدو أنه كان يجهز خطة مبتكرة جديدة لتحويل خسارتها إلى أرباح، فخاض من اجل ذلك معارك استخدم فيها كافة أسلحته، حتى حظي بتأييد رئيسة الوزراء البريطانية آنذاك مارجريت تاتشر التي وافقت له بصفة استثنائية على شراء المجموعة، على الرغم من أن قانون الاحتكارات البريطاني يمنع هيمنة شخص واحد على كل هذا العدد من الصحف، ومع . ذلك يسيطر موردوخ على ٤٠٪ من الصحافة البريطانية ومعها الرأي العام.
كما قلص مردوخ عدد العاملين في مجموعة The Times، وواجه نقابة عمال الطباعة بحركة استفزازية؛ حيث قام بطرد آلاف العمال دون سابق إنذار، متنكرا بذلك لبعض أفكاره اليسارية التي أعجب بها في مطلع الخمسينيات وأشاد بها كثيرا، ولكنه على غير المعتاد حافظ على الطابع المحافظ للصحيفة وملحقاتها.
منافسة السي إن إن :
توجهت أنظار موردوخ في عام ١٩٧٤ إلى أمريكا، واضطر لتغيير جنسيته ٣ مراتل لكي لا يعامل كأجنبي عند دخوله إليها، واشترى Express News San Antonio ورصدت عينه الصحف التي تعاني من مشاكل مادية فوقعت في عام ١٩٧٦ : post New York تحت يديه وهي على مشارف الاحتضار، ومارس عليها نفس الأسلوب الذي اتبعه مع صحيفة The Sun اللندنية لتنطلق من جديد، وتتخذ لها موقعا جديدا في عالم الصحافة الأمريكية.
وفي عام ۱۹۸٦ اقتحم موردوخ عالم الصوتيات والمرئيات بشرائه century twentieth studio Fox- Film، وبعد سنتين تمكن من شراء ٦ قنوات تلفزيون محلية ليؤسس Fox Broadcasting، وهي نواة أكبر شبكة تلفزيونية تعرفها الولايات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى منذ عام ١٩٤٨.
استطاع خلال سنوات معدودة أن يكون المنافس الرئيسي لشبكة الأخبار العالمية CNN من خلال شبكته فوكس القرن العشرين للإنتاج السينمائي، وما أسفر عنها من شبكة إخبارية واسعة امتدت إلى أمريكا الجنوبية والوسطي باللغات الأسبانية والبرتغالية.
وعندما استولى على شبكة البرامج الأرضية التلفزيونية المدفوعة Bsky B في عام ۱۹۹۲ استطاع احتكار حق بث ونقل مباريات الدوري الممتاز لكرة القدم البريطانية وبيع نسبة كبيرة للإعلانات؛ فأدى ذلك إلى زيادة عدد المشتركين في الشبكة إلى مليون مشاهد، ثم أقدم على خطوة جريئة لجذب أكبر عدد من المشاركين؛ حيث ابتكر فكرة توزيع أجهزة التشفير مجانا على المشتركين الجدد، وقفز بعددهم إلى أرقام لم تكن الشركة تحلم بها من قبل فوصل عدد المشاركين إلى 7 ملايين.
ثم اشترى موردوخ بعد عام من إحكام قبضته على الإعلام البريطاني عشرين بالمائة من شبكة Communications World، وقامت بضم قنوات مجموعة فوكس الإخبارية معها، وفي عام ۱۹۹٦ اشترى موردوخ المجموعة بالكامل، وبدأ في تشغيل شبكة فوكس بشكل جديد لينافس بها شبكة الإخبار العالمية CNN.
وكخطوة تمهيدية لهذا النجاح اتفقت المجموعة مع الشبكة الأمريكية لتوزيع القنوات التلفزيونية من خلال الكابلات الأرضية TCI؛ لضمان وصول برامجها إلى جميع المشاهدين، وليس فقط من خلال الأقمار الاصطناعية، كذلك مدت نشاطها إلى البرازيل والمكسيك في تعاقدات مماثلة للوصول إلى وسط جنوب القارة الأمريكية.
اشترى موردوخ في إطار صفقة داو جونز التي تضم شركة داو جونز للمعلومات المالية، ومجلة «بارونز» للشئون المالية، بالإضافة إلى وكالة أنباء داو جونز، ونشرة فاكتيفا»، ومجموعة صحف بارون»، ومجموعة مؤشرات بورصات بما في ذلك مؤشر داو جونز.. وكان المحللون قد أشاروا إلى أن صفقة شراء مجموعة داو جونز ستجعل من موردوخ، لاعبا رئيسا في الأخبار المالية العالمية.
وإلى جانب الصحف والمجلات والمحطات التليفزيونية يمتلك موردوخ عددا من دور النشر العالمية التي تشتهر بشكل خاص بكتبها الدينية واسعة الانتشار، كدار نشر هاربر كوليتر». إضافة إلى خدمات الإنترنت العديدة التي تقدمها شبكاته، ومؤخرا اشترى مجموعة ماي سبيس MySpase مقابل ۵۸۰ مليون دولار، لكن أعضاء هذه المجموعة أصبحوا أكبر أربع مرات في سنة واحدة، نظراً لنجاح هذه المؤسسة الإعلامية.
ويمتلك موقع propertyfinder. Com المتخصص في مجال بيع وشراء العقارات عبر الشبكة الدولية، ودفع موردوخ نحو ۲۱ مليون دولار لشراء هذا الموقع البريطاني الذي لم يكمل ١٠ سنوات من عمره ويزوره شهريًا أكثر من ٧٠٠ ألف زائر للبحث عن العقار للشراء أو الإيجار من بين ۲۰۰,۰۰۰ عقار معروض على الموقع. وقد انفق موردوخ أكثر من مليار دولار في شراء مواقع إلكترونية متخصصة في تجارة العقارات.
من جهة أخرى تمكن موردوخ من تمويل العمل الإعلامي من مصادر غير إعلامية مثل مزرعة الأغنام التي تمتلكها المجموعة في أستراليا، أو المساهمة في شركة طيران أسترالية كبرى وشراء نادي رياضي.
وتحقق مجموعة موردوخ عائدًا سنويًا يُقدر بـ ٤٢ مليار دولار، طبقا للتقرير السنوي الرسمي للمجموعة في عام ۲۰۰۱. كما تمتلك عائلة موردوخ ٣٢٪ من إجمالي رأس مال المجموعة التي تتحرك في السوق المالية تحت اسم شركة كرودن للاستثمار».
الإمبراطور:
أنشأ مردوخ أقوى إمبراطورية في العالم وهي الإمبراطورية الإعلامية ونفوذه يتسع دوما مؤمنا له موطئ قدم إعلامي وثقافي في كل بقعة من عالمنا... وفي خضم متابعته لدعم شركته العالمية يتجه مردوخ الآن إلى السيطرة على الإعلام الصيني واقتحام سوره التجاري... ويملك قناة phoenix التي تبث بالصينية والتي انتقدت حلف شمال الأطلسي بلا هوادة بعد قصف طائراته لمقر السفارة الصينية في بلغراد أثناء التدخل العسكري في إقليم كوسوفو؛ وذلك إرضاء للسلطات الصينية وحفاظا على مصالحه، حتى إن السفارة البريطانية في بكين أرسلت بمذكرة إلى الخارجية البريطانية احتجاجا على تغطية الصحف التي يمتلكها موردوخ للحدث. كما أمر بمنع نشر كتاب الغرب والشرق الذي ينتقد السياسة الشيوعية في الصين أيضا حفاظا على مصالحه، ودون الالتفات إلى حرية الرأي والفكر، على الرغم من أن الكتاب يحتوي حسب رأي النقاد على ملاحظات بناءة تفيد التجربة الصينية، وتعرض الجوانب الجيدة فيها وتقترح تعديلات على السلبيات الملحوظة، وأمر بمنع طباعة السيرة الذاتية للسير كريس باتن آخر حاكم بريطاني لهونج كونج.